تمويل النشاطات السياسية
وقة الخبير جان كلود كوليار
جلّ ما نزعت الديموقراطيات المعاصرة إلى وضع تشريع يتعلق بتمويل الحياة السياسية منذ منتصف الستينات. وبالتالي، أرست كافة بلدان المجموعة الأوروبية تقريباً- من بين بلدان أخرى- قواعد محددة؛ لن يتطرق هذا البحث إلى التجارب المتعددة بالتفصيل إلا أنه سيورد باقتضاب المشاكل التي واجهتها والحلول المقترحة، أي بمعنى آخر سيبحث في الاشكالية العامة.
ترتكز هذه الاشكالية على النقاط التالية:
1- التمويل الخاص أو التمويل العام:
1-1 لا تزال الفكرة التقليدية القائمة على وجوب تخصيص المال العام لنفقة ذات منفعة عامة وعلى استحالة تخصيصه للأحزاب التي تتبع من حيث المبدأ منفعة خاصة، تحظى بمؤيّدين لها، إلا أنها تتراجع أمام أمر بديهي وهو اضطرار الأحزاب إلى البحث على المال "في مكان آخر" مما يعرّضها إلى الاغراءات ...
1-2 إن الفكرة القائلة بأن التمويل العام حيادي تشهد تقدماً: فالتمويل لا يذهب لهذا الحزب أو ذاك بل إلى العملية الانتخابية برمّتها، أي إلى عناصر "الخدمة العامة للانتخابات" حسب التسمية الفرنسية.
1-3 بغية احترام حساسية المكلّفين، يحق لهم أحياناً أن يقرروا ما إذا كان جزء من ضريبتهم الخاصة سيخصص للتمويل السياسي (الولايات المتحدة؛ القانون الايطالي تاريخ 2 كانون الثاني 1977).
1-4 وفي حال تم اختيار التمويل الخاص، غالباً ما يحق للمكلف حسم الهبات والاشتراكات من الضريبة: في الواقع، يصلح الكلام في هذا السياق عن تمويل عام (جزئي) وهذا أمر متناقض بعض الشيء. ولكن هذا التناقض يزول عندما يضاف هذا الاجراء إلى تمويل عام.
2- التأثير على الانفاق
يقضي الإجراء الأول للحد من أثر المال على الحملات الانتخابية بتقليص قيمة النفقات. هناك قيود عديدة ممكنة سواء طبقت منفصلة أو مجتمعة:
2-1 منع بعض النفقات الأكثر كلفة: الاعلانات التلفزيونية مثلاً (التي تُستبدل ببرامج مجانية في الاذاعة والتلفزيون الرسميين). في المقابل، تشكل هذه الاعلانات مصدر الانفاق الأساسي في الولايات المتحدة؛ منع نشر الاعلانات التجارية أو اللوحات الاعلانية في الصحف (فرنسا، خلال الأشهر الثلاثة التي تسبق الشهر التي ستجرى فيه الانتخابات).
2-2 تحديد سقف عام لكل دائرة تكون قيمته موحّدة أو متغيّرة حسب حجم الدائرة (عدد الناخبين فيها): فرنسا، المملكة المتحدة، إيطاليا واسبانيا. في المملكة المتحدة، يرفع السقف في الدوائر الريفية التي تعتبر أكثر كلفة. على سبيل المثال، يبلغ السقف المتوسط في فرنسا (الدوائر الفردية) 60000 (ستون ألف) يورو أي ما يعادل تقريباً يورو واحداً لكل ناخب مسجل.
2-3 تجدر الاشارة إلى الحل الأميركي الطريف: لا يطبق السقف المالي الا على الانتخابات الرئاسية وعلى المرشحين الذين يلجأون إلى التمويل العام. أما المرشحون الآخرون، فيتمتعون بحرية مطلقة (نتيجة قرار المحكمة العليا Buckley v/s Valeo تاريخ 30 كانون الثاني 1976).
3- التأثير على الايرادات
الأمر مختلف بالنسبة إلى التبرعات الخاصة أو العامة.
3-1 في ما يتعلق بالتبرعات الخاصة، يجيز القانون الحد من قيمتها لتجنّب أن يحظى المتبرع نفسه بتأثير عظيم على المرشح، مما قد يؤدي إلى إنشاء موجب معنوي يقوم على عرفان الجميل، ما يعرف بالـ "Special Access" باللغة الأميركية. ويجوز حظر تبرعات بعض الأشخاص: الشخصيات الأجنبية والشخصيات العامة وحتى مجمل الشخصيات المعنوية (المؤسسات) غير الأحزاب السياسية (فرنسا، قانون 19 كانون الثاني 1995).
3-2 هناك صيغ متعددة للتمويل العام:
- تمويل الأحزاب عبر هبة شاملة، يكون كل حزب مسؤولاً عن تخصيص قسم منها للتشغيل العادي وقسم آخر للحملة الانتخابية (السويد).
- تمويل الحملات الانتخابية فحسب، كما في ألمانيا، ولكن الدفع على أقساط سنوية يؤدي في الواقع إلى تمويل الأحزاب.
- مزج الاحتمالين السابقين بحيث يكون التمويل مزدوجاً: تمويل الأحزاب من جهة والحملات الانتخابية من جهة أخرى: مثلاً، فرنسا، إيطاليا واسبانيا.
- في كافة الحالات، تطالعنا مشكلة معيار التوزيع: يجوز التوزيع بالتناسب مع الأصوات التي يتم الحصول عليها (إيطاليا) أو حسب عدد المقاعد التي تم الفوز بها والتي لا تختلف كثيراً في حال كان نظام الانتخاب نسبياً (كما في السويد) أو عبر مزج الحالتين المذكورتين (اسبانيا، فرنسا في ما يتعلق بتمويل الأحزاب).
- بالنسبة إلى الحملات الانتخابية الفرنسية، تقضي القاعدة العامة بتسديد النفقات لغاية نصف قيمة السقف شرط أن تكون هذه المبالغ قد أنفقت بالفعل.
- غالباً ما يطبّق مبدأ العتبة (المعدل الأدنى) التي تتراوح بين 0.5 % من عدد الأصوات (ألمانيا) و3% (أسبانيا) أو 5% (فرنسا، نفقات الحملة الانتخابية). وتجدر الاشارة هنا الى أن فرنسا لم تكن تفرض حداً أدنى لتمويل الأحزاب مما أدى إلى تضخّم عددها، إلى أن حدده قانون 11 نيسان 2003 بـ 1%.
4- الحاجة إلى الرقابة
بغية احترام قواعد السقف المالي، لا بد من فرض الرقابة التي تستتبع:
4-1 وضع حساب للحملة الانتخابية يبيّن كافة النفقات والايرادات العائدة للمرشح: كما في المملكة المتحدة وفي فرنسا.
4-2 رقابة من قبل سلطة إدارية أو قضائية مستقلة. في فرنسا، تؤدي الهيئة الوطنية لمراقبة حسابات الحملات الانتخابية والتمويل السياسي (CNCCFP) هذا الدور، وهي سلطة إدارية مستقلة يعيّن أعضاؤها التسعة من قبل رؤساء السلطات القضائية العليا: محكمة التمييز ومجلس شورى الدولة وديوان المحاسبة (تعين كل سلطة ثلاثة أعضاء).
4-3 آليات لفرض العقوبات بناء على قرار القاضي الذي تختاره السلطة السابقة: عقوبة مالية (غرامة، عدم تسديد النفقات) أو إنتخابية (إلغاء الانتخابات) علماً أن العقوبة في فرنسا يمكن أن تبلغ إعلان عدم الأهلية للترشّح (لسنة وللانتخابات المعنيّة) بالنسبة إلى المرشّح المخالف وهي عقوبة معنوية أساساً لمرشح مهزوم ولكنها ثقيلة جداً للمرشح المنتخب بما أنه سيخلع من منصبه بعد إعلان عدم أهليته ولن يستطيع الترشحّ للانتخابات الفرعية التي ستجرى لملء المقعد الشاغر.
5- إعتبارات ختامية
5-1 هناك تركيبات مختلفة ممكنة:
- سقف إنفاق من دون تمويل عام: المملكة المتحدة
- التمويل العام من دون سقف إنفاق: ألمانيا
- مزج الاحتمالين: إيطاليا، اسبانيا وفرنسا
5-2 الحالة الفرنسية:
- تمويل الأحزاب السياسية بشكل منتظم (سنوي)، يحتسب بالتساوي حسب الأصوات التي نالها الحزب وحسب المقاعد التي فاز بها. منذ صدور قانون 6 حزيران 2000، تم تخفيض المبلغ للأحزاب التي لا تقدم ترشيحات نسائية وذكورية متساوية من حيث العدد. وبلغت القيمة الموزعة 73 مليون يورو في العام 2005 (مرسوم تاريخ 21 آذار 2005 قدّم إلى الهيئة).
- حملات خاضعة لسقف معين ومسددة لغاية نصف قيمة السقف شرط أن يكون المرشح قد نال 5% من الأصوات (للانتخابات الرئاسية فحسب، 1/20 من السقف في الحالات الأخرى). تؤخذ في الحسبان كافة المبالغ التي أنفقت لصالح المرشح (بما فيها نفقات الأحزاب الداعمة) ولكن وحدها النفقات الشخصية تسدد، علماً أنه يصعب التمييز بين النفقات الانتخابية والنفقات الأخرى (اجتهادات متنوعة ووفيرة).
- رقابة الهيئة الوطنية CNCCFP المذكورة أعلاه: فعالة على صعيد الحملات الانتخابية ولكن أقل فعالية بالنسبة إلى الأحزاب (عدم وضوح المبدأ القانوني، عدم توافر وسائل التحقيق لدى الهيئة).
- عقوبات حقيقية: عدم التسديد، غرامات، إمكانية سقوط الولاية كما ذكر أعلاه (بالنسبة إلى الانتخابات النيابية التي أجريت في السنوات القليلة الماضية، سجلت حالتان إلى ست حالات حسب الأعوام من أصل 577 نائباً).
- تبدو مراقبة ذمة السياسيين المالية أكثر تعسّراً وهي تقوم على مقارنة التصريح الالزامي عن الممتلكات في بداية الولاية وفي نهايتها.
بيروت، في 11 تشرين الثاني 2005
جان-كلود كوليار
بروفيسور في جامعة باريس 1
|